إختر عدداً من الأرشيف  
لبنان

اللبنانيون يختلفون في السياسة... ويتفقون على سعد الحريري!
إطلالة تاريخية للرئيس الحريري حسمت الكثير من الأقاويل والشائعات
لا يصحّ إلا الصحيح. والصحيح هو أن الرئيس سعد الحريري هو الرجل المناسب في الوقت المناسب لإنقاذ لبنان. والصحيح هو أن اللبنانيين يختلفون على كل شيء ويتفقون على سعد الحريري. هذه هي الحقيقة المجردة التي اكتشفها الجميع مرّة أخرى، بعد تجربة أخرى هي تجربة الأزمة التي عصفت بلبنان.
لكن الصحيح أيضاً هو أن لبنان لا يمكن إلا أن يتطلّع بالعرفان والتقدير إلى أشقائه المخلصين الذين لا يتركونه في أحلك الظروف، والمعنيين بمساعدته على تلمّس طريق الإنقاذ، وفي مقدمهم الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، بقيادتها الحكيمة والمخلصة للعرب وقضاياهم.
أزمةٌ عَبَرت في سماء لبنان كما عَبَرت أزمات كثيرة أخرى. وكل ضربةٍ لا تميتني تحييني. ولبنان سيحيا بإخلاص المخلصين من أبنائه وأشقائه، وسيُكتَب له العمر المديد. فلا خوف على لبنان ولا على اللبنانيين.

نادرة هي اللحظات التي يلتقي فيها العقل والقلب في حبّ الوطن والإخلاص له والوفاء لأبنائه، كاللحظة التي أطلّ فيها الرئيس سعد الحريري عبر شاشة المستقبل، من منزله في المملكة العربية السعودية، شارحاً لأهله في لبنان ما أرادوا أن يعرفوه منه شخصياً، حول كل الملابسات التي رافقت تقديمه الاستقالة من رئاسة الحكومة.
هناك شاهدان على صدق دولة الرئيس وإخلاصه هما: الدمعتان اللتان لم يستطع حبسهما لدى حديثه عن لبنان وأهميته ودوره ومستقبله!
حاولت الزميلة بولا يعقوبيان، التي أجرت الحوار، أن تطرح عليه كل الأسئلة، البسيط منها والمثير للإحراج والاستفزازي. فالناس في لبنان اشتاقوا إليه ويريدون أن يوصلوا أصواتهم إلى مسامعه، والاطمئنان إليه. وهو لم يبخل عليهم بجواب صريح وواضح. وأساساً لا يعرف الرئيس الحريري في حياته سوى الصدق.

الأبرز في ما قاله الحريري هو أنه عائد خلال أيام قليلة إلى بيروت. وهو رسم خطة الطريق لعودته وعودة الدولة، مشترطاً النأي بالنفس عن صراعات المنطقة وحروبها، وكاشفاً ان بنود التسوية السياسية سقطت بالممارسة خلال عشرة اشهر من عمر الحكومة الاولى في عهد الرئيس عون في ما خص تحييد لبنان، مما أساء الى علاقاته بعدد من الدول العربية، ومنها السعودية.
فقد أطل الرئيس الحريري من دارته في الرياض وزفّ إلى اللبنانيين قراره العودة إلى لبنان قائلاً: راجع بعد يومين أو ثلاثة. فاشتعلت على الفور مواقع التواصل الاجتماعي ومختلف المناطق اللبنانية، من بيروت إلى طرابلس والشمال والبقاع والجنوب، بعبارات وتغريدات ومفرقعات التأييد والابتهاج بعودته المرتقبة. في حين برزت على شريط المواقف الدولية تأكيدات أميركية وبريطانية وفرنسية على ضرورة عودة الحريري إلى بيروت من دون مزيد من التأجيل، كما قال وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون، مشدداً على وجوب احترام استقلال لبنان وعدم استخدامه كأداة لصراعات بالوكالة.
مقابلة الرئيس الحريري أكدت للذين كانت تساورهم الشكوك أنه حرّ في تحركاته في المملكة. وهو بذلك وضع حداً لما كان تردّد في بيروت، لا سيما في دوائر الرئاسة التي سبق وتحدثت عن حدّ من حريته في المملكة، داحضاً جملة واسعة من الادعاءات بأنه من كتب بيان الاستقالة لإحداث صدمة إيجابية. كما أزال الحريري في مقابلته كل اللغط حول علاقته بالمملكة العربية السعودية وقيادتها، ووصفها بالقول: علاقة ممتازة ومميزة واللقاءات أكثر من ودّية.

ماذا قال الحريري؟
كسر الحريري جدار الصمت الذي التزمه منذ اعلان استقالته، فاتحاً الباب امام التراجع عن استقالته مشترطاً التوصل الى تسوية تكون نهائية وحقيقية حول سياسة النأي بالنفس - العبارة التي رددها في المقابلة 24مرّة - ومع حزب الله حول الموضوع الاقليمي، وداعياً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى فتح حوار حول سلاح الحزب. ومؤكداً عودته الى لبنان خلال يومين أو ثلاثة.
وأكد الحريري أنه لن يتراجع عن استقالته الا في حال احترام سياسة النأي بالنفس، وقال: سأقوم بكل الخطوات الدستوريّة في ما يتعلق بها، وتراجعي مرتبط بالنأي بالنفس. وأضاف: بدنا نعمل تسوية نهائية حقيقية مع حزب الله في الموضوع الاقليمي. واشار الى أن الإنتخابات النيابيّة ستجري في موعدها، وسأكون على رأس حكومة لتصريف الأعمال، لافتاً الى معطيات اكتشفتها أدّت بي الى الاستقالة ومهمّتي الأساسية محاولة الحفاظ على البلد وتجنيبه كثيراً من الأزمات الآتية. وقال: اكتشفت في آخر زيارة للرياض أن هناك معطيات جديدة وما يهمني هو لبنان.
وأعلن أنني أردت استمرار التسويّة وعدم السماح للنظام السوري أو غيره أن يفعل ما يريد في لبنان. والتسوية كانت أن ننأى بانفسنا وأن لا ننجرّ إلى النزاعات وأن نحافظ على العلاقات الجيّدة مع الدول العربية والدوليّة، واستقالتي هي صحوة. واعتبر ان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أكثر المتمّسكين بالدستور، ومن حقه أن يقبل الإستقالة أو يرفضها، ونحن كلنا تحت سقف الدستور وهو على حق أن ينتظر عودتي إلى لبنان للنظر في الإستقالة. مضيفاً: كل ما أقوله إنّنا سنسعى مع عون للعودة إلى البيان الوزاري، وعلى فخامة الرئيس تأدية دور في إطار فتح قنوات مع حزب الله للسير في ما هو لمصلحة لبنان فقط كما تفعل كل الدول حيث تعمل لمصلحة بلدها.
وأشار الحريري الى أن بيان الإستقالة تمعّنت به لتشكيل صدمة بما يصب في مصلحة لبنان، مضيفاً: لم أتنازل عن النأي بالنفس، وللبحث في سلاح حزب الله نحن في حاجة إلى حوار وهذا الأمر يطلبه رئيس الجمهوريّة لأنّ السلاح ليس قراراً داخليّاً وهو يشكل خطراً إقليميّاً. وبعد الصدمة ستكون العودة إلى لبنان، والعودة إلى العمل، وقيام تسوية حقيقيّة داخليّة مع حزب الله في الموضوع الإقليمي مع الإلتزام بالنأي بالنفس.

تعويم التسوية
أم تسوية بديلة؟
ونُقِل عن مصادر سياسية أن الإخلال بالتسوية المعقودة في العام 2016 هو العامل الأبرز وراء استقالة الحريري، إذ باتت مطلوبة إعادة التوازن السياسي وسياسة الحياد التي أعلنت الحكومة التزامها بها، واستعادة مبدأ النأي بالنفس. وبعض أطراف الحكومة لم يقدموا الحماية السياسية المطلوبة للحفاظ على هذه التسوية. ولذلك، جاءت استقالة الحريري لتفرض إما تعويم التسوية السياسية وإما إيجاد تسوية بديلة.
ولعل ذلك يصبح ممكناً من خلال دعوة رئيس الجمهورية الأطراف السياسية إلى طاولة حوار لإنتاج تسوية جديدة تأخذ في الاعتبار التوافق على الاستراتيجية الدفاعية للبنان، ومن ضمنها سلاح حزب الله ومشاركته في القتال إلى جانب النظام في سوريا. وعليه، فإن لبنان يقف الآن أمام مرحلة سياسية جديدة.
ووفق مصادر أخرى، إن مواقف الرئيس الحريري وإعلان التزامه بالتسوية تكفلت بإنهاء التوتر. فأبقت لبنان على سكة التسوية، فيما بدا أن التفاهم الأميركي - الروسي سيرخي ذيوله على الوضع في عموم المنطقة، لجهة فتح باب التسويات بدءاً من سوريا إلى اليمن.
وأما مصادر رئاسة الجمهورية فقالت إن الرئيس ميشال عون تابع مقابلة الرئيس الحريري، وأن ما قاله سيكون موضع تقويم. فما يهم رئيس الجمهورية هو عودة الرئيس الحريري إلى بيروت للبحث معه في موضوع الاستقالة وما طرحه فيها.
وأوحى تعليق المصادر الرئاسية بإمكان التسليم بالاستقالة، وإجراء حوار مع الرئيس الحريري، حين عودته إلى لبنان، حول موضوع النأي بالنفس الذي ركز عليه رئيس الحكومة في المقابلة وردده كثيراً، علماً ان الرئيس الحريري لم يقطع إمكان الرجوع عن الاستقالة في حال تمّ التفاهم مع الرئيس عون حول موضوع التسوية السياسية، الذي أعلن انها ما زالت قائمة، لكن تحتاج إلى حوار جديد يؤمن حياد لبنان عن أزمات المنطقة وتسليم حزب الله بأن تكون الأولوية للحفاظ على المصلحة اللبنانية العليا. وكان لافتاً الكلام الإيجابي جداً الذي قاله الرئيس الحريري عن الرئيس عون واعتباره له بمثابة الأبن.
ويتمسك رئيس الجمهورية بعودة الرئيس الحريري الى بيروت في اقرب وقت ممكن وفي افضل الظروف. فهذه الخطوة تتقدم على بقية الخطوات أيّا كانت اهميتها، كما تقول مصادر القصر الجمهوري، وتضيف: على رغم كل ما حصل، فالحريري هو رئيس الحكومة اللبنانية. وهذه الصفة تسمح فور عودته بمناقشة كل ما قاله، بما فيه موضوع الإستقالة والأسباب التي دفعته الى خطوته. وكل القضايا ستكون موضع تقييم دقيق لأنها تستأهل المتابعة الحثيثة ليبنى على الشيء مقتضاه.

بري يتشدد وجنبلاط مرتاح
وأما الرئيس نبيه برّي فجدد التأكيد أن الاستقالة لا تكون الا على الأراضي اللبنانية، وهو بالضبط ما سيفعله الرئيس الحريري عند عودته، مسلماً بالاجراءات الدستورية الواجب اتباعها.
لكن رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط سارع معلقاً على مقابلة الرئيس الحريري، عبر تويتر، فقال: على رغم كل الصعاب والعقبات والعثرات تبقى يا شيخ سعد رجل التسوية ورجل الحوار والدولة، تحية حارة من وليد جنبلاط. ونشر جنبلاط صورة للحريري مبتسماً.
وبدوره رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع غرّد قائلاً: الشيخ سعد الحريري حلقة استثنائية، نحن في انتظارك!.
وقالت مصادر القوات إن مقابلة الحريري وضعت حداً لكل حملة التضليل والتشويش والفبركة والتحوير والافتراء، وأكدت الأسباب الموجبة التي دفعت الحريري إلى الاستقالة. كذلك أكدت مضمون استقالته وجوهرها. والمعادلة التي طرحها الحريري واضحة جداً: العودة عن الاستقالة ممكنة شرط انسحاب حزب الله من أزمات المنطقة وإطلاق حوار داخلي حول سلاحه يختلف بطبيعة الحال عن الحوار السابق.
المقابلة كانت موضع ارتياح كبير لدى كتلة المستقبل في بيروت، ورأت أن إعلان الرئيس الحريري عن عودته في غضون أيام بشارة طيبة بشأن طبيعة المرحلة المقبلة، ما يجعلنا نتطلع إلى أن تكون في مصلحة لبنان والتقدم على مسار تصحيح علاقات لبنان الخارجية مع أشقائه العرب الذين يتشارك معهم في بناء نظام المصلحة العربية المشتركة. كذلك أيضاً من أجل تعزيز التزامه واحترامه للقرارات الدولية ولا سيما تلك الصادرة بشأن لبنان.
فإطلالة الرئيس الحريري كانت إطلالة رجل دولة من قياس رجال الدولة الكبار الذين عرفهم لبنان، وفيها إعادة تأكيد لمكانته المميزة في المعادلة الوطنية اللبنانية. وهي رسمت خطوطاً واضحة ومسؤولة بشأن المسار المطلوب اتباعه من أجل إخراج لبنان من لعبة المحاور الإقليمية والدولية، وتحديداً لجهة التأكيد على الالتزام بسياسة النأي بالنفس عن الصراعات والحروب الدائرة في المنطقة، بما في ذلك رفض كل أشكال التدخل الإيراني وأدواته في الشؤون الداخلية لجميع البلدان العربية الشقيقة.
وأكدت الكتلة تأييدها الكامل لمواقف الرئيس الحريري، لا سيما لجهة الالتزام بأسلوب الحوار الوطني، منطلقاً لمعالجة صحيحة وهادفة للخلافات الداخلية القائمة والأسباب التي دفعت إلى الأزمة.

ماذا بعد؟
في ضوء هذه التطورات، يسود لبنان مشهد ضبابي، ولكنه مفتوح على احتمالات شتى. وتستمر المساعي الديبلوماسية بحثاً عن مخرج للأزمة.
وفي أيّ حال، إنّ واشنطن والقوى الدولية الكبرى لن توافق على إغراق لبنان في الفوضى، أيّاً كانت المبرّرات. فالاستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب تجاه إيران ترمي إلى تفكيك مفاصل سيطرتها على دول المنطقة، خصوصاً لما تمثله من تهديد لإسرائيل. وواضح أنّ واشنطن تدعم أية خطوة عربية في هذا الاتجاه في شكل مطلق. ويرى ترامب أنّ اتّفاق فيينا مع إيران، في عهد الرئيس باراك أوباما، هو الذي سمح لها بالحصول على مئات مليارات الدولارات التي تستخدمها لتمويل السيطرة على الشرق الأوسط.
واللافت أنّ ترامب، وفيما كان منشغلاً بجولته الآسيوية، تعمَّد إصدارَ بيان يدعو الدولَ والأحزابَ إلى احترام سيادة لبنان واستقلاله وآلياته الدستورية. وإذ يؤكّد البيان رفض محاولات الميليشيات أو أيّة قوات أجنبية تهديد استقراره أو استخدامه قاعدة لتهديد الآخرين، يرسل إشارة مفادها أنّ الحريري لطالما كان شريكاً جديراً بثقتنا.
إذاً، فالطرفُ الدولي الذي يتكفّل بتحريك الأزمة من جمودها هو واشنطن التي ترعى الحملة الكبرى ضد النفوذ الإيراني. ولذلك سيكون الاستحقاق هو: كيف الملاءمة بين خيارَين:
- إستقرار لبنان كخطّ أحمر وعدم ذهابه نحو الفوضى في المواجهة الإقليمية.
- منع إيران من السيطرة على القرار اللبناني، من خلال حزب الله، بحيث تهدِّد دولاً عدة، ومنها إسرائيل.
واقعياً، هل يمكن إيجاد الصيغة السحرية الملائمة بين الخيارَين؟ وإذا كان ذلك ممكناً فلماذا تتأخّر؟ وأيُّ دور فيها لكل من لبنان والسعودية والقوى الإقليمية الحليفة لواشنطن، وأيُّ دور للولايات المتحدة؟


ط. ع
    قرأ هذا المقال   5412 مرة
غلاف هذا العدد