إختر عدداً من الأرشيف  
لبنان

مسؤولو لبنان يُصدمون بهطول المطر في بداية كل شتاء!
ألم يتعلّموا في الكتب المدرسية أن طقس لبنان ممطر شتاءً؟
هناك نعمةٌ يحظى بها لبنان من دون غالبية بلدان الشرق الأوسط والعالم العربي. إنها نعمة المطر التي جعلت من هذا البلد جنَّة على الأرض.
لكن هذه النعمة لا يقدرها مسؤولو لبنان حقّ قدرها، بل يتهاونون في التعاطي معها، إما بإهدار هذه الطاقة فتجري سيولاً وأنهاراً تضيع في البحر، فيما يمكن أن تكون نفط لبنان الجاهز للاستثمار قبل آبار النفط والغاز، وإما بتلويثها وقتل كل حياة فيها، كما يحصل اليوم ل أبي الأنهار اللبنانية وأطولها وأغزرها، نهر الليطاني!
وفوق ذلك، عندما يهطل المطر في لبنان عند مطلع موسم الأمطار، تغرق الشوارع وتدخل السيول إلى المنازل والمتاجر والمدارس والمستشفيات، وتتوقف شرايين حركة السير، وتتعطل الحياة إلى أن تنفرج الأزمة. ويتسبب ذلك بخسائر فادحة في الممتلكات، وفي بعض الأحيان تكون هناك إصابات في الأرواح.
في كل عام، تتكرّر هذه الأزمة، ومعها تتكرّر الذرائع وتقاذف المسؤوليات بين البلديات ووزارة الأشغال ومتعهدي الورش والمشاريع. وحتى اليوم، لم ينتهِ الجدل في أية مرّة إلى إثبات مسؤولية أحد، فالذرائع جاهزة عند الجميع. ويقول بعض الناس بمرارة: لو استعدوا لموسم الأمطار كما يستعدون لتقاذف المسؤوليات لكنا بألف خير!

هناك قول لبناني متداول منذ عهد الجدود: أيلول طرفُه بالشتي مبلول، أي أن جدّ جدّ المسؤول الموجود اليوم في السلطة أو المتعهد يعرف أن المطر في لبنان يمكن أن يبدأ في أيلول/سبتمبر. ومع ذلك، عندما يهطل المطر للمرة الأولى من الموسم يعلن الجميع أنهم فوجئوا بالأمطار!
وفي بعض المواسم، يتأخر هطول المطرة الأولى إلى تشرين الأول/اكتوبر أو تشرين الثاني/نوفمبر، وقد لا تهطل أمطار غزيزة قبل كانون الأول/ديسمبر. ومع ذلك، فإن المعنيين يصدمهم سقوط المطر، وكأن لبنان بلد صحراوي جاف، لا أحد يتوقع فيه الأمطار خلال فصل الشتاء!
يبدو أن هؤلاء لم يقرأوا شيئاً في الكتب المدرسية، كتب الصفوف الإبتدائية، عن طقس لبنان. والأرجح أنهم لم يدخلوا المدارس أصلاً. فلو دخلوها لكانوا تعلموا أيضاً كيف يتحملون المسؤولية الوطنية والوظيفية!
إذاً، أيلول/سبتمبر يقترب، ومعه يخشى اللبنانيون أن تأتي لهم نعمة المطر بنقمة الطوافانات. ويسارعون إلى المسؤولين يسألونهم: هل باتت البنى التحتية جاهزة لاستقبال المطر أم إن لبنان سيغرق مجدداً وكما كل عام، بسبب انعدام صيانة المجاري المائية والورش المفتوحة على الطرق؟ وهل سيتعرضون مجدداً لخطر الطوفان في الطرق والمنازل والمؤسسات، وخطر انهيار جدران الدعم بالسيارات والمارة؟
كالمعتاد، لا أحد يجيب عن هذه الاسئلة. فالمسؤولون في وزارة الأشغال العامة والنقل والوزراء الآخرون المعنيون والبلديات والمتعهدون غائبون عن السمع. ربما هم اليوم يتمتعون بالغوص في منتجعات أوروبا... وعندما تقع الواقعة في لبنان سيكون لكل حادث حديث.
إنها دولة الفساد تعلن عن نفسها في كل شيء، في النفايات وسواها. وإثباتاً للفساد، يتم تلزيم مناقصات الصيانة وتأهيل البنى التحتية بالتراضي، وللمتعهدين الذين كانت لهم سوابق في الإهمال والتسبب بالأزمات، ووفقاً للطريقة إياها، وبناء على منطق توزيع الحصص على الجميع. فلا شفافية ولا طريقة علمية في التلزيم، ولا مساءلة ولا محاسبة ولا متابعة في التنفيذ. والبلد سائر وفق مقولة "سارحة والربّ راعيها.

تجربة 2015 المريرة
في العام الفائت، كانت الصورة كارثية على أبواب موسم الأمطار، إذ ارتفعت جبال النفايات في الشوارع والأحراج والوديان. وعلى رغم التحذيرات، دخل اللبنانيون في الكارثة، لأن النفايات استمرت تتزايد ومرّ عليها موسم الشتاء بكامله. فانزلقت النفايات من اعالي الجبال عبر الوديان الى المنخفضات، وفاضت الأنهر والمجاري المائية التي اجتاحتها هذه النفايات التي ظهرت أكياسها التي تسبح في الطرق وتجوب الشوارع والأحياء وقد تدخل الى المنازل مع المياه التي اعتادت الدخول من دون استئذان. وأدى ذلك إلى وقوع كارثة بيئية نتيجة الخطر على المياه الجوفية وتلوث التربة. واليوم، على رغم الانفراج النسبي في أزمة النفايات، فإن طيفها مستمر وقد يقع لبنان في فيضان النفايات مجدداً.
ويحاول المعنيون في وزارة الأشغال العامة أن يقنعوا الناس بأنهم يقومون بما عليهم في هذا المجال. ففي المبدأ، يجب أن تجرى اجتماعات في هذه الفترة من الصيف تضم مسؤولي الوزارة ومتعهدي تنظيف شبكة تصريف المياه، في حضور لجان المراقبة التابعة للوزارة. كما تجري اجتماعات مماثلة لمسؤولي البلديات لمتابعة أوضاع الطرق والمجاري في الإطار الجغرافي التابع لكل منها. ويوحي الجميع بأنهم اتخذوا الخطوات اللازمة ليكون كل شيء على ما يرام قبل بدء أيلول/سبتمبر، ويؤكدون أن الأعمال جارية في الشكل المطلوب وبالسرعة الممكنة.

بيروت على أعصابها... للشتوة الأولى
إذاً، إنه الهاجس عينه يتكرّر في كل سنة. ومعاينة الشوارع في النصف الثاني من الصيف لا توحي بالكثير من التفاؤل مع كثافة الحفريات والمشاريع الموزعة على مفاصل الشوارع الرئيسة ومداخل العاصمة ومخارجها والممتدة من نهر الموت إلى خلدة. فالامطار قد تفرض ما ليس في الحسبان، نظراً إلى كثافة الحفريات وأكوام الردميات والأتربة والنفايات التي تسدّ المجاري والقساطل، المهترئ بعضها أصلاً، خصوصاً في الأحياء الداخلية.
وتدافع البلديات عن نفسها بالقول: نحن نقوم بتنظيف المجاري لكنها تعود وتقفل بالأوساخ بعد أسبوع. ويشكو البعض من ظاهرة المافيات التي تسرق أغطية الريغارات. ولا يستطيع المشاة أن يجتازوا في خلال موجات المطر معظم شوارع بيروت التي تكون غارقة بمياه المطر والمجاري الصحية في آن معاً.
ووزارة الاشغال هي المعني بتنظيف المجاري على الطرق الكبرى والاوتوسترادات. وأما الطرق الداخلية فيعود أمر الاهتمام بها الى البلديات، التي تطلب من الوزارة التدخل للمساعدة عند الضرورة. فالبلديات تقوم بتنظيف الطرق الداخلية بصورة دورية، بالتنسيق مع وزارة الأشغال وتطلب المساعدة منها للتدخل عند الحاجة خصوصاً مع تلك البلديات التي لا تمتلك الامكانات اللازمة.
ولعلّ بلدية بيروت هي أكثر البلديات المعنية بالموضوع كونها من أكبرها بما تضم من مناطق كثيرة وواسعة. ويشكل موسم الشتاء الآتي أول امتحان حقيقي للبلديات المنتخبة حديثاً ومدى استعدادها للعمل في الخدمة العامة.
وتقع المسؤولية الأساسية على بلديات المدن الكبرى، بدءاً ببيروت، والبلدات الكبرى في الضواحي. وهي مضطرة إلى إعلان حال الطوارئ لمواجهة الشتاء ومتاعب أمطاره. ويفترض أن تباشر هذه البلديات من تموز/يوليو إلى أيلول/سبتمبر بتنظيف المجاري وإزالة الترسبات، عبر فريق عمل مجهز بآلات ويشمل عمله كل الأحياء التابعة لنطاق البلدية، على ان يكون هناك فريق طوارئ للشتاء لمنع السيول اذا ما وقعت.

سوابق خطرة
وسبق أن أدت فيضانات الجولة الأولى من الأمطار، والعواصف المطرية، إلى وقوع أزمات مهمة. ومنها مثلاً فيضان نفق المطار ونهر الغدير في الضاحية الجنوبية من بيروت. وكانت بلدية الغبيري بادرت في مراحل سابقة الى تنظيف المجاري المائية والطرق، تفادياً لتكرار حادثة فيضان نفق المطار.
وأما نهر الغدير، فسبق أن أدت غزارة الأمطار الى زيادة منسوب المياه في هذا النهر الذي يمرّ في الضاحية الجنوبية، وعلى ضفافه نحو 2000 وحدة سكنية، إضافة الى محلات تجارية. وفي بعض الأحيان، دخلت اليها مياه الامطار وتجاوز ارتفاعها النصف متر، ما أدى الى أضرار كبيرة.
وكان وزير الاشغال السابق غازي العريضي أوضح أن لا سبيل بالوسائل التقليدية للسيطرة على الوضع في نهر الغدير عندما تكون الأمطار غزيرة في شكل استثنائي. ولفت الى ان هناك خطة للنهر أعدها مجلس الانماء والاعمار.

النعمة والنقمة
من المؤكد أن المياه نعمة ربانية، وأن الشتاء هو فصل الخير والبركة الذي ينتظره الناس بفارغ الصبر، خصوصاً مع تزايد موجات الجفاف وتغيير المناخ. لكن هناك مسؤولية على ذوي الشأن بألاّ يحولوا النعمة الى نقمة، عندما تجتاح الفيضانات منازلهم ومؤسساتهم وتهدد حياتهم. فهل مَن يسمع، وهل مَن يسأل؟
    قرأ هذا المقال   1952 مرة
غلاف هذا العدد